الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)
فإن قلت: وتلك إشارة إلى ماذا؟ وأن عبدت ما محلها من الإعراب؟ قلت: تلك إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة، لا يدري ما هي إلا بتفسيرها؛ ومحل أن عبدت الرفع، عطف بيان لتلك، ونظيره قوله تعالى: {وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين} والمعنى: تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها عليّ. وقال الزجاج: يجوز أن يكون في موضع نصب، المعنى أنها صارت نعمة عليّ، لأن عبدت بني إسرائيل، أي لو لم تفعل لكفلني أهلي ولم يلقوني في اليم. انتهى. وقال الحوفي: {أن عبدت بني إسرائيل} في موضع نصب مفعول من أجله. وقال أبو البقاء: بدل، ولما أخبر موسى فرعون بأنه رسول رب العالمين، لم يسأل إذ ذاك فيقول: {وما رب العالمين}؟ بل أخذ في المداهاة وتذكار التربية والتقبيح لما فعله من قتل القبطي. فلما أجابه عن ذلك انقطعت حجته في التربية والقتل، وكان في قوله: {رسول رب العالمين} دعاء إلى الإقرار بربوبية الله، وإلى طاعة رب العالم، فأخذ فرعون يستفهم عن الذي ذكر موسى أنه رسول من عنده. والظاهر أن سؤاله إنما كان على سبيل المباهتة والمكابرة والمرادّة، وكان عالماً بالله. ويدل عليه: {لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر} ولكنه تعامى عن ذلك طلباً للرياسة ودعوى الإلهية، واستفهم بما استفهاماً عن مجهول من الأشياء. قال مكي: كما يستفهم عن الأجناس، وقد ورد له استفهام بمن في موضع آخر، ويشبه أنها مواطن. انتهى. والموضع الآخر قوله: {فمن ربكما يا موسى} ولما سأله فرعون، وكان السؤال بما التي هي من سؤال عن الماهية، ولم يمكن الجواب بالماهية، أجاب بالصفات التي تبين للسامع أنه لا مشاركة لفرعون فيها، وهي ربوبية السموات والأرض وما بينهما.وقال الزمخشري: وهذا السؤال لا يخلو أن يريد به أي شيء من الأشياء التي شوهدت وعرفت أجناسها، فأجاب بما يستدل عليه من أفعاله الخاصة، ليعرفه أنه ليس مما شوهد وعرف من الأجرام والأعراض، وأنه شيء مخالف لجميع الأشياء، {ليس كمثله شيء} وأما أن يريد أنه شيء على الإطلاق تفتيشاً عن حقيقة الخاصة ما هي، فأجاب بأن الذي سألت عنه ليس إليه سبيل، وهو الكافي في معرفته معرفة بيانه بصفاته استدلالاً بأفعاله الخاصة على ذلك؛ وأما التفتيش عن حقيقة الخاصة التي هي فوق فطر العقول، فتفتيش عما لا سبيل إليه، والسائل عنه متعنت غير طالب للحق. والذي يليق بحال فرعون، ويدل عليه الكلام، أن كون سؤاله إنكاراً لأن يكون للعالمين رب سواه، ألا ترى أنه يعلم حدوثه بعد العدم؟ وأنه محل للحوادث؟ وأنه لم يدعّ الإلهية إلا في محل ملكه مصر؟ وأنه لم يكن ملك الأرض؟ بل كان فيها ملوك غيره، وأنبياء في ذلك الزمان يدعون إلى الله كشعيب عليه السلام؟ وأنه كان مقراً بالله تعالى في باطن أمره؟ وجاء قوله: {وما بينهما} على التثنية، والعائد عليه الضمير مجموع اعتباراً للجنسين: جنس السماء، وجنس الأرض؛ كما ثنى المظهر في قوله: اعتباراً للجنسين: وقال أبو عبد الله الرازي يحتمل أن يقال: كان عالماً بالله ولكنه قال ما قال طلباً للملك والرياسة. وقد ذكر تعالى في كتابه ما يدل على أنه كان عارفاً بالله، وهو قوله: {لقد علمت ما أنزل هؤلاء} الآية. ويحتمل أنه كان على مذهب الدهرية من أن الأفلاك واجبة الوجود لذواتها، وأن حركاتها أسباب لحصول الحوادث بالفاعل المختار، ثم اعتقد أنه بمنزلة إله لأهل إقليمه من حيث استعبدهم وملك زمام أمرهم. ويحتمل أن يقال: كان على مذهب الحلولية القائلين: بأن ذات الإله تقرر بجسد إنسان معين حتى يكون الإله سبحانه بمنزلة روح كل إنسان بالنسبة إلى جسده، وبهذه التقديرات كان يسمي نفسه إلهاً. انتهى. ومعنى: {إن كنتم موقنين}: إن كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدي إلى النظر الصحيح، نفعكم هذا الجواب، وإلا لم ينفعكم؛ أو إن كنتم موقنين بشيء قط، فهذا أولى ما توقنون به لظهوره وإنارة دليله. وهذه المحاورة من فرعون تدل على أن موسى عليه السلام دعاه إلى التوحيد.{قال لمن حوله}: هم أشراف قومه. قيل: كانوا خمسمائة رجل عليهم الأساور، وكانت للملوك خاصة. {ألا تستمعون}: أي ألا تصغون إلى هذه المقالة إغراء به وتعجباً، إذ كانت عقيدتهم أن فرعون ربهم ومعبودهم. قال ابن عطية: والفراعنة قبله كذلك، وهذه ضلالة منها في مصر وديارنا إلى اليوم بقية.انتهى. يشير إلى ما أدركه في عصره من ملوك العبيديين الذين كان أتباعهم تدعى فيهم الإلهية، وأقاموا ملوكاً بمصر، من زمان المعز إلى زمان العاضد، إلى أن محى الله دولتهم بظهور الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاري رضي الله عنه، فلقد كانت له مآثر في الإسلام منها: فتح بيت المقدس وبلاد كثيرة من سواحل الشام، كان النصارى مستولين عليها، فاستنقذها منهم. {قال ربكم ورب آبائكم الأولين}: نبههم على منشئهم ومنشئ آبائهم، وجاء في قوله: الأولين، دلالة على إماتتهم بعد إيجادهم. وانتقل من الاستدلال بالعام إلى ما يخصهم، ليكون أوضح لهم في بيان بطل دعوى فرعون الإلهية، إذ كان آباؤهم الأولون تقدموا فرعون في الوجود، فمحال أن يكون وهو في العدم إلهاً لهم.{قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون}. قال أبو عبد الله الرازي: التعريف بهذا الأثر أظهر، فلهذا عدل موسى عليه السلام من الكلام الأول إليه، إذ كان لا يمكن أن يعتقد العاقل في نفسه وفي آبائه كونهم واجبي الوجود لذواتهم، لأن المشاهدة دلت على وجودهم بعد عدمهم، وعدمهم بعد وجودهم، فعند ذلك قال فرعون: ما قال يعني أن المقصود من سؤال ما طلبت الماهية وخصوصية الحقيقة. والتعريف بهذه الآثار الخارجية لا تفيد تلك الخصوصية، فهذا الذي يدعي الرسالة مجنون لا يفهم السؤال فضلاً عن أن يجيب عنه، فقال موسى عليه السلام: {رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون}: فعدل إلى طريق أوضح من الثاني، وذلك أنه أراد بالمشرق: طلوع الشمس وظهور النهار، وأراد بالمغرب: غروب الشمس وزوال النهار.وهذا التقدير المستمر على الوجه العجيب لا يتم إلا بتدبير مدبر، وهذا بعينه طريقة إبراهيم عليه السلام مع نمروذ، فإنه استدل أولاً بالإحياء والإماتة، وهو الذي ذكره موسى عليه السلام هنا بقوله: {ربكم ورب آبائكم الأولين}، فأجابه نمروذ بقوله: {أنا أحيي وأميت} فقال: {فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر} وهو الذي ذكره موسى عليه السلام هنا بقوله: {رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون}: أي إن كنتم من العقلاء، عرفتم أن لا جواب عن السؤال إلا ما ذكرت. انتهى، وفيه بعض تلخيص. وقال ابن عطية: زاده موسى عليه السلام في بيان الصفات التي تظهر نقص فرعون، وتبين أنه في غاية البعد عن القدرة عليها، وهي ربوبية المشرق والمغرب، ولم يكن لفرعون إلا ملك مصر من البحر إلى أسوان وأرض الإسكندرية. وقرأ مجاهد، وحميد، والأعرج: أرسل إليكم، على بناء الفاعل، أي أرسله ربه إليكم. وقرأ عبد الله، وأصحابه، والأعمش: رب المشارق والمغارب، على الجمع فيهما. ولما انقطع فرعون في باب الاحتجاج، رجع إلى الاستعلاء والغلب، وهذا أبين علامات الانقطاع، فتوعد موسى بالسجن حين أعياه خطابه: {قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين}.وقال الزمخشري: لما أجاب موسى بما أجاب، عجب قومه من جوابه، حيث نسب الربوبية إلى غيره، فلما ثنى بتقرير قوله، جننه إلى قومه وظنن به، حيث سماه رسولهم، فلما ثلث احتد واحتدم، وقال: {لئن اتخذت إلهاً غيري}.فإن قلت: كيف قال: أولاً: {إن كنتم موقنين}، وآخراً: {إن كنتم تعقلون}؟ قلت: لأين أولاً، فلما رأى شدة الشكيمة في العناد وقلة الإصغاء إلى عرض الحجج، خاشن وعارض إن رسولكم لمجنون بقوله: {إن كنتم تعقلون}. فإن قلت: ألم يكن لأسجننك أخصر من {لأجعلنك من المسجونين} ومؤدّياً مؤدّاه؟ قلت: أما أخصر فنعم، وأما مؤدّياً مؤدّاه فلا، لأن معناه: لأجعلنك واحداً ممن عرفت حالهم في سجوني. وكان من عادته أن يأخذ من يريد سجنه فيطرحه في هوّة ذاهبة في الأرض بعيدة العمق فرداً، لا يبصر فيها ولا يسمع، فكان ذلك أشد من القتل. انتهى. ولما كان عند موسى عليه السلام من أمر فرعون ما لا يروعه معه توعد فرعون، قال له على جهة اللطف به والطمع في إيمانه: {أو لو جئتك بشيء مبين}، أي يوضح لك صدقي، أفكنت تسجنني؟ قال الزمخشري: أو لو جئتك، واو الحال دخلت عليها همزة الاستفهام، معناه: أتفعل بي ذلك ولو جئتك بشيء مبين؟ انتهى. وتقدّم لنا الكلام على هذه الواو، والداخلة على لو في مثل هذا السياق في قوله: {أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون} فأغنى عن إعادته. وقال الحوفي: واو العطف دخلت عليها همزة الاستفهام للتقرير، والمعنى: أتسجنني حتى في هذه الحالة التي لا تناسب أن أسجن وأنا متلبس بها؟.ولما سمع فرعون هذا من موسى طمع أن يجده موضع معارضة فقال له: {فأت به إن كنت من الصادقين}، إن لك رباً بعثك رسولاً إلينا. قال الزمخشري: وفي قوله: {إن كنت من الصادقين} دليل على أنه لا يأتي بالمعجزة إلا الصادق في دعواه، لأن المعجزة تصديق من الله لمدعي النبوة، والحكيم لا يصدق الكاذب. ومن العجب أن مثل فرعون لم يخف عليه مثل هذا، وخفي على ناس من أهل القبلة، حيث جوزوا القبيح على الله حتى لزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات. انتهى. وتقديره: إن كنت من الصادقين فأت به، حذف الجزاء، لأن الأمر بالإتيان يدل عليه. وقدره الزمخشري: إن كنت من الصادقين في دعواك أتيت به. جعل الجواب المحذوف فعلاً ماضياً، ولا يقدر إلا من جنس الدليل بقولهم: أنت ظالم إن فعلت، تقديره: أنت ظالم إن فعلت فأنت ظالم. وقال الحوفي: إن حرف شرط يجوز أن يكون ما تقدم جوابه، وجاز تقديم الجواب، لأن حذف الشرط لم يعمل في اللفظ شيئاً. ويجوز أن يكون الجواب محذوفاً تقديره فأت به.وقول الزمخشري: حتى لزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات، إشارة إلى إنكار الكرامات التي ذهب أهل السنة إلى إثباتها. والمعجز عندهم هو ما كان خارقاً للعادة، ولا يكون إلا لنبي أو في زمان نبي، إن جرى على يد غيره فتكون معجزة لذلك النبي، أو على سبيل الإرهاص لنبي.{فألقى عصاه}: رماها من يده، وتقدم الكلام على عصا موسى عليه السلام. والثعبان: أعظم ما يكون من الحيات. ومعنى {مبين}: ظاهر الثعبانية، ليست من الأشياء التي تزوّر بالشعبذة والسحر. {ونزع يده} من جيبه، {فإذا هي} تلألأ كأنها قطعة من الشمس. ومعنى {للناظرين}: أي بياضها يجتمع النظارة على النظر إليه لخروجه عن العادة، وكان بياضاً نورانياً. روي أنه لما أبصر أمر العصا قال: فهل غيرها؟ فأخرج يده، فقال: ما هذه؟ قال: يدك، فأدخلها في إبطه ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشي الأبصار ويسد الأفق.
|